February 8, 2018 Yasser Ahmad 0Comment

الإسبريسو…

هذا الغامض المستتر في عالمه الداكن العميق، هذا العنيد الذي يطرق كل أبواب الخلايا فيوقظها من ثباتها البعيد. أسود قاتم يعتمر قبعته البنية ويتطلع نحوك بأناقة وثقة. مهر أسود جامح، تمطيه فيعدو بك نحو الأرض التى تشرق عندها خيوط الضوء.

الإسبريسو هو أسطورة العبق وخرافة الرائحة المنتشية فى الأركان، يتهادى من فوهة الماكينة بقطراته الثقيلة مطلقا سحب الرائحة لتتسيد المكان، تتسرب إلى أنفك رائحة القهوة كتيار دافئ في ليلة باردة، تناجي ذاكرتك وتعيد ترتيب الأفكار والحكايات.

يسحب عم سالم الذراع النحاسي ويتدفق الإسبرسو الداكن في قاع الفنجان على مهل مثل كهل يتتبع خيط ذكريات طويل. يضع إبراهيم الفنجان أمامي وكوب ماء بعد التحية الصباح المعتادة، وأرتشف أول دفقة إسبريسو ببطأ منتظرا السحر الذي يتبعه. أجول ببصري باحثا عن من سيبدأ الحديث من الجالسون، لابد أن يدور حديث من أحاديث الإسبريسو، هكذا كان حال المكان مهما تغيرت الوجوه وتبدلت الأزمان. هكذا هو المقهى وهكذا هي القاهرة وسكانها.

حكاياتي فى المقهي الصغير كلها دارت حول طاولات الاسبرسو فى الصباح والمساء، مضت وفق طقوس القهوة وتشكلت حسب أمزجتها مابين عنادها المنتبه وفراستها النرجسية، وأحيانا إسترسالها الرائق على وقع أم كلثوم عندما تصدح من الراديو المعلق في الزاوية كل مساء.

هذا المقهي كان مختلف ولم يكن مثله مكان، كلما سافرت للخارج وجبت العواصم، كنت أفتش في المقاهي عن مكاناً يشبهه ولو حتى قليلا، تنقلت بين مقاعد الكثير من مقاهي الإسبريسو بحثا عن توأم شبيه، ولكن لسبب ما ظل هذا المقهى فريدا من نوعه. كثيرا من المقاهي تقدم الأسبريسو الفاخر في أكواب فخمة ونوعية قهوة أفضل من التى كان يقدمها هذا المقهى ولكنه بقى هو على مكانته، مكاني الأثير وجزء لا يتجزأ من معرفتي بعالم الأسبريسو الأنيق وطقوسه وأحاديثه.

الاسبريسو هو الرجل الأنيق، يتربع على عرش مملكة القهوة ويفرض عليك طقوسه. فنجانه الأرستقراطي، معلقته الصغيرة، ظله الداكن ورشفاته المعدودة كأنها لحظات من العمر محسوبة بدقة.

***

حقيقة لا أذكر اليوم الذي دخلت فيه هذا المقهى لأول مرة. أبي كان يأخذني لوسط البلد في صباح أيام العطلات الدراسية وبعد أن ينهي أعماله التجارية في الصباح، نقصد أحد السينمات لنشاهد فيلم أمريكيا. كان يعشق السينما الكلاسيكية ونجومها ولكن في تلك الأيام لم تكن هناك كلاسيكيات. نقف أمام سينما مترو بلافتتها الكبيرة ثم نقط تذكرتين وندلف إلى البهو الجميل بديكوراتيه التي تشبه مسارح برودواي. قدماي تغوصان في الموكيت الأحمر الفاخر ونصعد السلالم الأرستقراطية ونجلس على الكراسي الوثيرة ثم ينفتح الستار. أنه حلم كنت أرتاده مع أبي وأنا مبهور في كل مرة.

أبي عادة ما كان يغلبه التعب ويغريه هواء التكييف فيسقط في النوم ويتركني وحدي أتابع الفيلم. كان على في كل مرة أن أعيد سرد الفيلم عليه في الطريق إلى البيت. فيما يبدو كانت تلك هي هواياته المفضلة التي يستمتع بها، يحب طريقتي في الحكي حتى وإن أختلقت أحداث لم تحدث في الفيلم، يهز رأسه وكأنه ينصت لطرب الست أم الكلثوم ويسألني عن المزيد. كلما توقفت ألقى بسؤال ما ليفتح أمامي أفاق جديدة للحكي، يحفزني لأحكي ولم يكن يعلم أنه كان يشكل في داخلي شئ ما.
يمتد بيننا الحديث حتى يقترح أن نحصل على وجبة فاخرة لنشبع جوعنا بعد يوم طويل. في مطعم الكباب الشهير بوسط البلد هناك مرآة كبيرة بجوار الباب، يتوقف أمامها ونحن في طريقنا للخروج، يطلب مني أن أفعل مثله، ينكش شعره قليلا فأقلده. عندما أسأل عن السبب، يكون عليه أن يوضح لي أن أختي ستغار لأننا لم نأخذها معنا في تلك الرحلات التي كنا نرتاد فيها وسط المدينة.

هكذا أرتبطت بوسط المدينة وسينما مترو حتى قادتنا الصدفة ذات مرة إلى ذلك المقهي القائم على الناصية المقابلة من الشارع. وهذا كان هو اليوم الذي إكتشفت فيه الإسبريسو.

تقول الأسطورة أن من يدخل هذا المقهى لن يخرج منه مثلما كان.

***

يطل العجائز في وجهي لسنوات كنت فيها طالب يقف على إستحياء في الركن المجاور لباب المقهى. القليل منهم كان يرسلون تحية ثقيلة بينما الأغلبية لم تكن لتعيرني سوى نظرات توجس وفضول. كان الأمر مربكا منذ أن أتيت لهنا أول مرة وتطلعت أنا وأبي نحو قائمة المشروبات. سألنا عن كل شئ ولم نجد لديهم شئ متاح سوى الإسبريسو والكابتشينو. لم يكن العاملين في المقهى ودودين تجاه الغرباء والزبائن كان يبدوا عليهم أنهم مجتمع مغلق لا يحبذ فكرة منازعة المارين لملكوته الخاص.

لم يكن أبي صاحب ذائقة ما عندما يتعلق الأمر بالقهوة أو الشاي. عندما طلبنا فنجانين من الإسبريسو صدمني هذا المشروب الحاد الطعم لطفل لم يتجاوز التاسعة. أبتسم أبي وهو يرقب وجهي الممتعض ويهمس لي بأننا سنداوي الأمر بالكوكولا لاحقا.