March 15, 2018 Yasser Ahmad 0Comment

يحمل المكان أناسه ويعبر بهم الزمن وكأنه العلامة الوحيدة الباقية التي تشير إلى الأشياء التي لم تتغير.. الأشياء الأخيرة

تدور الأيام ويتغير حال الشارع عبر العقود المتوالية وتتبدل الحوانيت عدة مرات وتتغير البلد والناس وأحوالهم، ولكن مقهى الإسبريسو ظل كما هو لا يآبه بما يدور. وسط البلد تحول من حي ثقافي راقي إلى سرادق طويل من محلات الملابس معبأ بزحام المنتجات الرخيصة والبشر. تلاشت أبهة هذا العالم ولم تتبقى سوى العمارات الأوروبية القديمة تطل من أعلى بأسى على طرقات لم تعد تليق بها. كل شئ صار يتغير أمام عيني على مدار السنوات ليتحول إلا مزج غريب. مزج لا يتوقف عن التبدل للأسوأ في شارعي المفضل الذي تحملني قدماي إليه كلما قررت الخروج للقاهرة.

وسط كل ما كان يسقط مع الزمن في هذا الشارع، ظلت علامة سينما ميامي الكبيرة بأعلى وعلى مقربة منها باب مقهي الذي يلوح كرمز للأشياء الأخيرة. قررت أن أسميها هكذا بعد يوما كنت أقرأ فيه رواية لبول أوستر. ما أن أدلف حتى تلاقيني رائحة القهوة التي لا تمل عن فعل أستثارة الدماغ. يعلو صوت البخار من الماكينة الإيطالية القديمة ذات الأربع أذرع واللون البرتقالي وتتراص فوقها فناجين الأسبريسو والكابتشينو البيضاء.

المشاجرة اليومية بين عمال المقهى العجائز هي تقليد يومي يتشرف المقهى بتقديمه في عرض مستمر منذ أن توقف أنور وجدي عن أنتاج الأفلام. ليست هذه بمزحة، بل بالأحرى قد يكون هذا التاريخ حقيقة معروفة. الأثنين الأقدم في المقهى بدأوا العمل في عام 1955 وهو العام الذي توفي فيه أنور وجدي تاركا الساحة للعرض البريمير الأول في مقهى الإسبريسو.

واحد فقط من أبطال العرض تبقى في المقهى وهو عم صالح. عم صالح الذي تجاوز الثمانين هو الأول في ترتيب الأقدمية للعاملين الحاليين بالمقهى، بينما الأحدث هو صفوت الذي أنضم في أواخر الستينات. الخمسة عمال هم من حملهم المقهى عبر الأزمان حتى صاروا هم والمقهى شئ واحد. لا أحد يعرف أجابة للسؤال البديهي: لماذا هؤلاء الخمسة هم وحدهم من أستمروا في المقهى عبر زمن يبلغ أكثر من خمسين عاما؟

تقول الأسطورة أن من صعب على أحد العمل في هذا المكان وأن من يستطيع أن يعمل به لن يخرج منه أبدا. أنها تعويذة ربما ولكن لا أحد يملك تفسير للأمر. بالرغم من الراتب الهزيل ومشاجراتهم اليومية وكبر سنهم وتناقص عدد الزبائن مع الزمن، إلا أنهم لم يغادروا المكان وحتى من خرج منهم لبعض الوقت فقد عاد. هذا المقهى لم يكن فقط يربط زبائنه بخيط لا مرئي بل كان يفرض سطوته على عامليه ولا يجدون دونه سبيل.

أما ملكية المقهى فلها قصة طويلة مفادها أن ملاكه الأصليين كانوا يونانيين الأصل وقاموا ببيعه في الخمسينات لأحد التجار المصريين. عندما مات التاجر في الثمانينات قام أولاده بالأهمال في المكان ثم باعوه بعد أن تراكمت عليه الديون لرجل كان يشتري المتاجر في وسط البلد. المالك الجديد لم يكن يريد المقهى بغرض الربح بل كان أحد زبائنه وقرر أن يشتريه ويتركه لعماله القدامى ليديروه. ظل المقهى إلى وقتنا هذا لا يستقطب سوى زبائنه القدامى الذين كانوا بدورهم يموتون مع الوقت ليتناقص عدد الرواد.

عمال المقهى مقسمون لوظيفتين رئيستين هما أسطى الماكينة وموظف الكاشير. مهنة أسطى الماكينة مقسمة ما بين الخامسة صباحا والعاشرة مساءا بين ثلاث أسطوات وهما عم صالح في الصباح وموسى في فترة الظهر وعم بلبل في المساء. أما وظيفة الكاشير فهي مقسمة بين أسماعيل الهن وصفوت بالتبادل. عندما تناقص عمال المقهى مع الزمن وبسبب قلة الراتب وتناقص البقشيش لم يعد في المقهى عمال يقومون بدور تنظيف المقهى، فأصبحت تلك المهام مسؤولية موظفي الكاشير.

يهتف عم بلبل في المساء شاتما أسماعيل الهن فيرد أسماعيل الماكر بكلمات تستفز عم بلبل أكثر ولكنه لا يجد لها حل سوى أن يقول بغيظ

“يا مومياء!”

يسود صامت لدقيقتين وتبدو أن المشاجرة أنتهت ولكن هيهات. جلسة الأنس الليلة من العجائز لا تحب أن يتوقف الشجار فيلقى أحدهم أسفين لتعود المشاجرة إلى نقطة البداية. يضحك العجائز كلما أزدادت سخونية العرض وينقسمون لفريقين كل منهما يناصر طرف.

عندما يزور غريبا مقاهنا فهو لن يفهم ماذا يحدث تحديدا؟ لن يفهم ما سر العلاقة المحتدمة بين العاملين ولا سر حب رواد المقهى في الفرجة على هذا الأمر؟ لن يفهم أحد لماذا شاب في سني يجلس بين عشرة عجائز، لن يفهم لماذا كل من يعملون في المكان لم يتغيروا منذ أكثر من خمس عقود، لن يفهم أحد لماذا طعم الإسبريسو هنا ثقيلا وفريدا عن أي مكان أخر؟ أنه مقهى الإسبريسو الذي وقف حائلا أمام الزمن وتغيراته، وظلت ماكينة القهوة فيه تزأر عبر العصور.

يقول أحد الجالسين مدعيا الفحولة

“أنا لسه جامد.. الليلة اللي فاتت قعدت ساعتين”

يطل عم بلبل برأسه الأصلع المتناثر حولها شعر أشيب ويهتف ساخرا

“سيبك من الكلام ده.. أنا الموضوع بالنسبة لي 35 دقيقه بالظبط.. تظبط عليا الساعة”

تعلو الهمهات غير مصدقة لكن أحد الطيبين يقول أحدهم

“ما أنت زي الفل أهوه يا بلبل!”

يرد بلبل ممتعضا

“لا يا بيه .. 35 دقيقة من ساعة ما بمشي من هنا.. نص ساعة للبيت وبعدين عد خمس دقايق بالظبط”

ينفجر الضحك قبل أن نغادر مقاعدنا ويقوم أسماعيل بلم المقاعد وفناجين فرغت بعد أن منحت جرعات كافيين المساء لعجائز لم تعد لديهم أشياء ليمارسونها.

نخرج لنعود دوما للمكان الذي لا تتغير فيه الأشياء. لا أحد من كان ليفهم مفردات هذا المقهى ولكننا كنا جميعا واقعين في سرادبه السري المغلق والمدفون في قلب وسط المدينة.

ذكريات مقهى الإسبريسو.. مقهى الأشياء الأخيرة التي ظلت..