March 1, 2018 Yasser Ahmad 0Comment

كانوا مثلهم مثل الأخرون في كل شئ إلا في اللحظات التي يمارس التاريخ فيها هوايته.

“كاليميرا خريستوا”

“كاليميرا عم صالح”

“بوس ايسته؟.. يا سو”

“كاكوس.. كاكوس خالص يا عم صالح”

“يا جدع أحمد ربنا مره في حياتك”

يهمهم الخواجة “الجريكي” ويجلس على أول مقعد يقابله، بعد أن صده عم صالح عن ممارسة عادته في النواح والشكوى. الساعة لم تتجاوز السادسة صباحا واليوم هو الأحد. أنه موعد شلة الخواجات الأسبوعي وقد أفتتح خريستوا المشهد بالجريكي. ها هي سونيا الشقراء ذات الثمانين ربيعا والتي تنحدر من أصل يوناني، دخلت متأبطة ذراع صديقتها الأنتيم فيكي مارديني. سونيا صبغت شعرها بالأحمر وأرتدت بالطو من الفرو وكأنها ذاهبه لحضور الأوبرا بينما صديقتها فيكي الإيطالية تجر في يدها عربة السوق وتجتاح الجميع وكأنها السيدة والدة الدون كورليوني. هذا وارد فهي من أسرة صقلية الأصل. سبحان من جمع سونيا مدربة الأتيكيت سابقا، بفيكي أو فكتوريا السليطه. المشهد الكوميدي لدخولهم المقهى كان لا يفشل أبدا في جذب أنتباهي ورسم أبتسامة عريضة على وجهي.

أين الباقون؟ يدلف فرانشيسكو الإيطالي القصير ذو الحمالات والكرش، بخطوات متخبطة تدل على أنه كان مسطولا ليلة أمس. ما أن يستريح على الكرسي المجاور لي حتى ترتفع قدميه أتوماتيكا فلا تلامس الأرض نظرا لقصره. هذا هو مشهد أخر كان يثير ضحكي. روجيه المدرس الفرنسي يدلف بعد قليل وفي يده كالمعتاد كيس يحتوى على عدد أثنين كرواسون يتناولهم مع كوب كابتشينو مضاعف الحجم.

أه لم يتبقى سوى درة التاج وفاتنة الفاتنات. لا تظهر باكرا كباقي الخواجات ولذلك تسخر سونيا عادة منها وتسميها الدلوعة. في السابعة والنصف تخطو نيللي أستيفانو بدلال يجعل عم صالح يخرج من وقاره ويصيح من مكانه خلف ماكينة الأسبريسو بوصلة غزل صريح.

“البرنسيسة وصلت.. وحشتيني يا قمر”

“يا رجل أتلم بقى دا أحنا عدينا السبعين”

تطلق ضحكة عذبة وتتمخطر بتنورة قصيرة وكعب عالي يدب على بلاط المقهى. ما أن تراني جالسا حتى تهجم

“شوف مين ظهر أخيرا.. ما تجيبي بوسه يا واد يا حليوه أنتا.. أمواااه”

طبعة أحمر شفايف ستلتصق بوجنتي لساعة وسيتطلب أزالتها مجهود مرهق. لابد أنها مازلت تستعمل أحمر شفاه ثقيل من أيام الخمسينات، من أيام الفقيده خالدة الذكر مارلين مونرو.  تجاوزت نيللي السبعين ولكن مسحة الجمال التي تحملها ستجعل كل من يراها يتمنى لو أطل ولو مرة في هذا الوجه عندما كان شابا. أنف دقيق أنيق وعيون زرقاء ذات أهداب لم يهدرها الزمن، أما شعرها المصفف بعناية فيدل على مهارة لم تفقدها نيللي حتى وهي في السبعين. على بعد شارعين وفي ممر متفرع من قصر النيل يكمن كوافير أستيفانو التي ورثته نيللي عن أبوها وأمها. تقول حكايات المقهى أن الأم اليونانية والأب الإيطالي كانوا يديرون أشهر صالون تجميل في الأربعينات والخمسينات. نيللي نفسها وهي في شبابها كانت تصفف شعر أشهر نجمات السينما. رأيتها ذات مرة في فيلم قديم وسط فتيات في استعراض غنائي وعندمات أخبرتها ضحكت وقالت بدلال

“وي سيلفو بليه.. طلعت كام مره كده لما كان عندي 19 سنه.. البابا والماما محبوش أني أمثل”

“طيب أحكيلي عن قصتك مع رشدي”

“رشدي أباظة؟”

“سمعت أنه كان داير وراكي في كل حته”

“هههه لأ.. ما يعجبنيش”

تقولها وهي تسحب سيجارة وتشعلها بثقة وأناقة فريدة. دائما تمنحنى قطعة شيكولاته من حقيبة يدها وكأني طفل صغير يزور صالونها.

جلسة الخواجات كلها حكايات تبدأ بالحديث حول طرق أعداد الباستا لا دينتي، كيف نجد الروزماري في السوق؟، حنفية الماء تنقط وأحتاج سباك، من سيذهب لأجتماع الجالية؟، ثم تنتهي أحيانا بحكايات وقفشات خليعه تحتاج كل مقصات الرقابة. هذه هة حال المقهى في صباحيات الأحد عندما تخرج منه كلمات يونانيه وفرنسيه وبعض الإيطالية لتمتزج بقفشات ونكات مصريه صميمة.

***

يقال أن العثمانيين هم أول من أدخلوا كلمة “خواجة” إلى مصر وأن الكلمة تعنى السيد أو التاجر الغني. الكلمة أيضا كان لها تصريف أخر مستخدم قديما في مصر وهو “الخوجه” أي المدرس وأطلقت على الأجانب لأن أغلبهم كانوا يقومون بالتدريس لأبناء الطبقة الأرستقراطية. كعادة المصريين في تحويل الألقاب إلى دلالات تحمل قدرا من التوصيف يحمل مسحة سخرية، تحولت كلمة “خواجة” لتوصيف الأجانب الذين أستقروا في مصر. الأغلبية كانت تنحدر من ثلاث أصول أساسية هم اليونانين والإيطاليين والأرمن. عندما يقول المصريين “خواجة” فهم يحبون توصيفه بأنه رجل متمصر يحكي بلكنة ما ويتبع ثقافة مختلطة. ولأن هؤلاء الخواجات كانوا مصريين المولد والنشأة فتحورت أسمائهم لأسماء أخف على اللسان المصري. إيمانويل يصير مانولي، وقسطنطين يصبح كوستي، وماريا تصبح ماريكا، حتى خارالامبو أصبح سعيد.

أنتهى زمن الخواجات في مصر رسميا خلال حقبة التأميم ولكن قله قليلة منهم عمرت وبقت في القاهرة وظلوا يرتادون المقهى. ظلوا لأتأملهم وأسرح في زمن رحل وتركهم خلفه. أتطلع لأرى كنزات محكاه من غرز التريكو الواسعة، تنورات وسرويل من الصوف، مناديل قماش يخرجونها من جيوبهم، جوراب فيليه وأحذيه لازلت تلمع. أنصت لحكاياتهم عن الأسرة التي تفرقت عبر الأجيال حول العالم ومشكلات أملاكهم المتنازع عليها وأمراض الشيخوخة وغلاء الأسعار والمعاشات الشحيحة. يقف قطار الشكاوي أحيانا أمام بعض القفشات وعزومة على أكلت ملوخيه في بيت سونيا تشيع جو من السعادة.

كنت لسنوات طويلة مشغول بسؤال واحد عن هؤلاء الخواجات. لماذا هؤلاء ظلوا هنا ولم يذهبوا كما ذهب الأخرون؟ الأجابة كانت بسيطة جدا ولكني أحتاجت سنوات لأستوعبها. هؤلاء الخواجات هم مصريون.. مصريون حتى النخاع.

يهبط فرانشيسكو من على كرسيه إلى الأرض بسلام. أودعه قائلا

“تشاااو فرانشيسكو”

“بالكاكاو” يرد بخفة دم مصرية أصيلة.

من حكايات مقهى الإسبريسو.

espresso in cairo yasser ahmad writer