لكل حضور بدايات بعيدة ونهايات قريبة جدا.. أقرب من ما تستحق.
من سيربح في النهاية؟ الجنرال أم الست؟
تتراص ثلاث طاولات يتم ضمهم عند منتصف المكان ويدلف الحضور كلا حسب موعده. تبدأ السهرة اليومية عند الثامنة وتمتد حتى الحادية عشر. الجلسات الأكثر حضورا وصخبا هي تلك التي تأتي يوم الخميس والجمعة والأحد والأقل حضورا كانت دوما هي سهرة السبت. العدد كان غالبا ما يتجاوز العشرة من رواد المكان الذي كان أغلبهم قدماء المقهى اللذين تجاوزا الستين. أصغر الوجوه في تلك الجلسة وأجددها كانت مرتبتة مسجلة بأسمي. شاب في أواخر العشرينات، يندس في قلب المعمعة الليلية، وسجله يحتوى فقط على خمسة عشر عاما من أرتياد المكان. باقي الشلة أمضوار بين تلك الجدران فترات تتجاوز الثلاثين عاما وفي أحيانا أخرى أربعون عاما. العجائز هم زبائن المكان منذ الستنيات وبعضهم كان يعود تاريخيه إلى الخمسينات. هؤلاء هم من عاشوا سنوات المجد التي كان فيها المقهى أحد أشهر مقاهي المدينة.
تقول الأسطورة أن المقهى كان يرتاده الكثير من المشاهير منذ أن فتح أبوابه في الثلاثينات وأمتدت شهرته حتى الثمانينات. أحد أشهر الشخصيات التي أحتست الأسبريسو في المقهى كانت جيهان السادات في أواخر السبعينات عندما حضرت عرضا مسرحيا في المسرح القومي ثم أوقفت سيارتها وقررت زيارة المقهى. عم صالح العامل العجوز يقول أن الحرس الجمهوري دلف وراء البار وأشرف على طحن البن وصب الفنجان. كنت أعرف أن المقهى صاحب مجد قديم عندما كنت أزوره وأنا صغير. رأيت الكثير من الفنانين والكتاب الكبار يحتسون الإسبريسو على البار وتتوارى وجوههم بين دخان السجائر وبخار ماكينة الإسبريسو التي تنفث على الدوام.
لا تكتمل أمسيات القاهرة دون صوت أم كلثوم. تشدو الست في الخلفية وتهب نسائم الشتاء الباردة ويتبارى العجائز في إلقاء النكات. ندور وندور في الحيز الضيق ويتلاشى الزمن من أخر طرفه ولكنه يطول من أوله، من ناحية الذكريات. وماذا يملك العجائز أفضل من الذكريات؟
يقول ماركيز “لا يوجد عجوز لا يعرف أين خبأ كنزه”
هيا بنا نبحر في الليل والحكايات وتدور السرديات عن قاهرة الستينات الجميلة وذكريات الشباب ويحضر على الطاولة الضيف الدائم الذي يفرض نفسه على ذكريات تلك الحقبة وكل ما تلاها. أنه الشبح الذي لا يقتل في هذه البلد، يسقط علينا في منتصف الحديث ويحتل محور الحديث.
جمال عبد الناصر يسحب كرسي ويجلس على الطاولة وبينما هو لا يفعل شيئا سوى هز كتفيه العريضين، يشعل الجدل. الرجل الخارق للزمن يظل دوما هو أس كل المشاجرات والأنقسامات في صفوف العجائز.
فريق الناصريين يترأسه بكل تأكيد الناصري الأصلي الدكتور عبد الشهيد حسين. لا يصح أبدا أن تمزح مع رجل يذكر عبد الناصر دوما بمقولة “أين أنت يا جنرال؟”، ولكني كنت أمزح. كان الدكتور يعلم جيدا أني من الفريق المعادي ولكنه كان يمنحني بعد الإستثناءات والمساحة. لم يكن أرتباط الدكتور بعبدالناصر مجرد قناعات تعود لزخم الأسطورة التي نشأ هذا الجيل في كنفها، بل كان أحد رجال عبدالناصر نفسه، أحد هؤلاء المميزين الذي أنتقاهم ليشكلوا منظمة الشباب. ربما قد تكون سمعت عن المنظمة، ولكن القليليين فقط هم من يعرفون أن تلك المنظمة هي التي أنجبت كل رجال الساسة الكبار الذين شغلوا أهم مناصب في العصور التي تلت. نعم، كل رجال المنظمة الشباب كانوا يشغلون أكبر المناصب بأستثناء شخص واحد أكتفى بوظيفه في أحد شركات الأدوية بالقطاع العام. رجل فضل التوارى في جلسات هذا المقهى منذ سنين بعيده، أنه الدكتور عبد الشهيد حسين.
باقي الفريق الناصري كان متحيز بشكل عاطفي لا يحوي أي قدر من العقلانيه بعكس الدكتور الذي كان مثقف من الوزن الثقيل، رجل قرأ أمهات الكتب وكان عضوا فاعلا في متون التيار الأشتراكي. أما فريقي على الجانب الأخر فكان فريق مهترئ تماما ولا تستطيع أن تصنفه فكريا، ينتمى أغلبهم لتوجهات برجوازية مشتته. مع كل حديث سياسي أو أقتصادي عام، يقفز عبدالناصر إلى قلب الحديث ويضرب بقوة. الرجل مازل حاضرا في جدليات هذا الشعب مهما ردم عليه الزمن من أنقاض مازلت تسقط. عبدالناصر قادر على تأميم حتى أحاديث المقهى.
يحتدم النقاش ويفور ويفور على طاولات المساء..
ثم فجاءة ينتهى كل شئ بقوة السحر عندما تضرب الست بتطريبة مباغتة يترنح لها الجميع.
“يا قلبي آه.. الحب وراه” يتهلل الجميع وتفرض الست نفسها على الحاضرين وترفع الفناجين لأخر قطرة سوداء في القاع. أخر رمق في الإسبريسو قوي وساحق حتى وأن كان قد برد.
هي الست ولا أحد غيرها قادر على الضرب في صميم المعمة بجبروت صوتها الرخيم. تنتصر الست ويحلو الجو وتتوالى القفشات المرحة
الدكتور عادل ييحكي عن زيارته لطبيب العظام. الفحصوات كانت تقول أنه يحتاج لعملية مؤلمة في الركبة ولكن الطبيب في الفحص الأخير، تفحص ركبتيه جيدا بعد خلع بنطاله وأخبره أنه لا داعي للعملية. فرح كثير لدرجة أنه قفز من على سرير الفحص وقام بحضن الطبيب.
ييهتف الدكتور عبد الشهيد قائلا
“والبنطلون؟ هل قمت بحضن الطبيب بعد أن أرتديته أم قبلها؟”
ينفجر الجميع في نوبة ضحك طويلة لا تتوقف. تدمع عيني من الضحك ونتهكم على الأمر بينما نهم بالمغادرة. على ناصية الشارع نمارس الطقس المعتاد ونتصافح جميعا بينما من وراءنا يغلق المقهى أبوابه. تفتح القاهرة طرقاته لنسائم الليل ونمضي كالسكارى بعد ليلة حافلة بالجدل والحكايات والضحكات. لو توقفت القاهرة عن الحكي لسمعنا صمتها، ولكن ليلها لا يمل الحكايات.
تتبعني موسيقى أم كلثوم في طريقى للبيت فأسير أدندن وتصغي المدينة.
من حكايات مقهي الإسبريسو.
ياسر أحمد