أكثر من عشرون عاما، كانت تلك هي المسافة الأطول في الحياة التي قطعتها بصحبة شئ ما. مقهى الإسبريسو سكن في جزء كبير من حياتي وراودني عن الكثير من الأحدث والأشخاص. مقهى الإسبريسو لم يكن مجرد مقهى بالنسبة لي كما لم يكن الإسبريسو مجرد مزاج يومي، هذا المكان صنع في داخلي زمنا لم أستطع الخروج منه.
يقول لي أحدهم ذات مساء غائم
“كل منا يبحث عن مكان ليختبئ فيه”
بعد سنوات عندما فكرت في الأمر، أكتشفت أننا لا نفتش فقط عن مكان لنختبئ فيه، بل نبحث عن زمنا يشبهنا كي نسكن فيه.
يضرب البخار في قاع الفنجان الأبيض ويمسح جيدا ليتأهب لوقع القهوة الثقيل عندما تهبط على مهل. لم أكن أرتاد المقهى بشكل متصل طيلة السنوات وكنت أحيانا أغيب لفترات تتراوح بين سنه أو حتى أربعة سنوات. كنت في تلك الأوقات مسافرا خارج البلد، أجوب مدن أخرى وأتنقل بين مقاهي لا تحصى ولا تعد. في كل بلد وما أن أحط في المطار حتى تبدأ رحلتي مباشرة في الكشف عن مقهى يتشابه مع مقهاي المفضل. الشروط تبدأ بجودة الإسبريسو، إطلالة على طريق مزدحم بالبشر، ركن قصي، ونادل لا يسأل الغرباء من إين أتوا. تغربني المقاهي التي لا تعرف الإسبريسو الجيد وتقتلني المدن التي لا يحترم فيها أحد طقوس القهوة الهادئة.
في كل مرة أعود فيها لمدينتي، يعرف الجميع إين سيلاقني بعد طول غياب. أنه المقر الدائم لي بعد كل غياب. كيف مرت السنوات في هذا المكان دون تمهل؟ أشعر وكأن هذا المقهى سرقني بخفة وسحر ودون أسباب. لعب معي لعبة لم أكن لأفهمها. لعبة تذكرني بقصة قرأتها وأنا صغير ونسيتها حتى كبرت.
يروى أن هناك رجل وقف على قضبان القطار منتظرا القطار ليخلصه من حياته. من بعيد ظهر القطار قادما في عكس الاتجاه المعتاد مما جعل الرجل يصاب بالحيرة، فقطار المساء لا يأتي من هذا الاتجاه قط!
من أن أقترب القطار حتى توقف وأطلق حوله دفعة دخان كثيف ثم هبط من عربة السائق رجل غريب الأطوار يرتدي بدلة سوداء ذات ذيل وصديري بأزرار فضية كبيرة وقبعة طويلة. يقترب منه ويتفحصه مليا قبل أن يقول فجاءة ودون مقدمات
– لقد أتيت لأمنحك فرصة
– من أنت؟ ولماذا أتى هذا القطار من الاتجاه الخاطئ؟
– ليس هذا ما يهمك.. ألم تكن تريد أن تنهي حياتك.. أنا سأمنحك فرصة جيدة لم تكن تحلم بها
– وما هي؟
– الخلود.. سأعطيك هذه الساعة وكل ما عليك أن تفعله هو أن توقفها عندما تتحسن ظروف حياتك. لو صرت سعيدا يوما ما وأوقفت الساعة ستظل سعيد وحياتك ستظل على تلك الحالة للأبد.
– ولن تتغير؟
– بكل تأكيد.. ستظل كما أنت ولن تهرم ولن يتغير شئ في حياتك.. كل شئ سيظل ثابت وعلى حاله.
– هذا أمر جيد.. من الذي سيرفض شيئا كهذا؟ أنا موافق إذا.
– ولكن هناك شرط.. إذا لم توقف الساعة في أي يوم ومضى بك العمر حتى حانت لحظة موتك الحقيقية.. ستكون روحك ملكي.
– أممم.. لا أعتقد بأن هذا سيحدث.. سيأتي يوما أكون فيه سعيدا وأوقف الساعة بكل تأكيد.
– تلك هي الساعة.. لا تنسى فإن لم توقف تلك الساعة ستصير روحك ملكي!
يبتسم الرجل ويشعر بإن هذا العرض وإن صح سيكون أفضل شئ حدث له على الإطلاق. يرتدي الساعة ويمضى إلى حياته التي سرعان ما تبدأ في التغير. يحصل على وظيفة أفضل ويستأجر شقة ويفكر هل يوقف الساعة الأن بعد أن تحسنت أموره كثيرا؟ لكنه مازل يحتاج أشياء أخرى مثل الحب والأولاد. لا يريد أن يوقف الساعة ويقضى حياته وحيدا. يقرر إن الوقت لم يحن بعد ليوقف الساعة ويقرر أن يفتش في الحياة عن ما ينقصه. يقابل فتاة ذات صباح على شاطئ البحر ويقع في غرامها ويتزوجها ثم يصير لديه ثلاثة أبناء. فكر أن الوقت قد حان وعليه أن يوقف الساعة ولكن البيت صار ضيق ووظيفته بالكاد تكفي مصروفات أولاده. قرر أن عليه أن ينتظر حتى يترقى أو يحصل على أموال مناسبه ليبدأ مشروعه الخاص. مضت السنوات به ما بين صعوبات وأوقات متقلبة لا تستقر على حال حتى أنه قد نسى أمر الساعة تماما والإتفاق. ذات يوما وجد نفسه عجوز تجاوز الستين ويتمشى وحده في البلدة بعد أن هجره أولاده وماتت زوجته وصار وحيدا مثلما كان من قبل. تتطلع نحو الساعة وفكر بأنه سيوشك على الموت فهل يوقف الساعة؟ وبماذا سيفيد لو أوقفها الأن؟ سيعيش للأبد عجوز ووحيدا في هذا المكان. لم يعد له خيار سوى أن ينتظر قدره. في كل يوم كان يخرج من مسكنه ليجلس على مقعد المحطة حتى وصل القطار أخيرا وهبط منه نفس الرجل الغريب الأطوار.
– أيها العجوز أمنحنى ساعاتي.. لقد حانت لحظة موتك وروحك صارت لي
تطلع نحو القطار فرأي وجوه كثيرة بائسة تطل عليه من خلف النوافذ. سأل
– هل كل هؤلاء حمقى مثلي ولم يوقفوا الساعة؟
– نعم.. أنتم البشر هكذا.. تظنون أنك تسيطيرون على الأمور ولكن الحياة ستسرقكم دائما
– من أنت؟
– أنا الذي لا صديق له
يسحب منه الساعة بقوة ويدفعه إلى القطار ويمضى به في لمح البصر. كم كانت اللعبة مع الزمن أصعب بكثير مما ظن.
في هذا المقهى مرت السنوات دون أن أوقف الساعة.